لماذا نحب مشاهدة الأفلام؟ الجانب النفسي وراء عشق السينما
تخيل نفسك تجلس في قاعة مظلمة، تصمت الأنفاس، ويبدأ الشعار الشهير لفيلم "The Lion King" مع صرخة الحياة: "Nants ingonyama..."، فتشعر بقشعريرة تمر في جسدك دون سبب منطقي سوى أنك على وشك أن تُبحر في عالم آخر. لماذا يحدث ذلك؟ ما الذي يجعلنا نضحك، نبكي، ونعيش لحظات لا تخصنا وكأنها جزء من ذاكرتنا الشخصية؟ منذ اختراع السينما في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى ثورة المنصات الرقمية اليوم، لا تزال مشاهدة الأفلام من أكثر النشاطات المحببة للبشر. لكن ما السر وراء هذا الحب العميق للسينما؟ ولماذا تترك فينا هذا الأثر الذي لا يُنسى؟
السينما كوسيلة للهروب من الواقع
واحدة من أقوى وظائف السينما النفسية هي قدرتها على أن تكون "بوابة هروب". في عالمٍ يعج بالتوتر، والأخبار السيئة، والمسؤوليات اليومية، تأتي الأفلام لتمنحنا استراحة ذهنية. مشاهدة فيلم فانتازي أو خيال علمي، مثل Inception أو Avatar، تسمح لعقولنا أن تنفصل عن الواقع مؤقتًا، فنغوص في عالم من الاحتمالات والمبالغات. هنا تكمن قوة السينما: لا تفرض عليك واقعًا، بل تعيد تشكيله بما يتوافق مع حاجتك للراحة أو الإثارة. في علم النفس، يُعرف هذا بالسلوك التجنّبي أو "الهروب الذهني"، وهو أسلوب شائع للتعامل مع الضغط والإجهاد.
التعاطف والارتباط بالشخصيات
كم مرة بكيت عند موت شخصية خيالية؟ أو شعرت بالنصر وكأنك البطل حين يحقق هدفه؟ هذا التفاعل العاطفي العميق يسمى في علم النفس بـ"الانعكاس العاطفي" (Emotional Mirroring)، حيث يحاكي دماغنا مشاعر الآخرين — حتى إن كانوا غير حقيقيين. الأفلام تتقن صناعة شخصيات نتعاطف معها لأنها تشبهنا أو تمثل ما نريد أن نكون عليه. هذا الارتباط يجعل القصص السينمائية أكثر من مجرد ترفيه؛ بل يتحول إلى علاقة شعورية قائمة على التقمص والتعاطف، وهو ما يفسر أيضا نجاح المسلسلات والأفلام الطويلة التي تمنح وقتًا كافيًا لتطور الشخصيات.
الإثارة وتحفيز الدوبامين
المشاهد المشوّقة، الرومانسية، أو الكوميدية تحفّز مراكز المتعة في الدماغ، وتُطلق هرمون الدوبامين الذي يمنحنا شعورا بالسعادة والانبهار. حين نشاهد فيلم إثارة مثل The Dark Knight أو رومانسية مثل Pride and Prejudice، لا نتابع فقط القصة، بل نخوض تجربة حسية متكاملة. السينما توفّر ما يسمى في علم النفس بـ"المكافآت الفورية"، وهذا ما يجعل بعض الأفلام تترك أثرا نفسيا لا يُنسى، لأنها تمسّ مشاعر مكبوتة أو احتياجات داخلية لم نكن نعي وجودها.
الأفلام كأداة للفهم والتعلّم
ليست كل الأفلام للهروب أو الترفيه فقط، فهناك أعمال تُثري وعينا وتوسّع أفقنا. الأفلام الوثائقية مثل The Social Dilemma، أو الدرامية مثل Schindler’s List، تعرّفنا على ثقافات، قضايا، وصراعات لم نعِشها شخصياً، لكنها تجعلنا نرى العالم بعيون الآخرين. هذا يُعرف في علم النفس بمفهوم "التقمص المعرفي" (Cognitive Empathy)، وهو أداة قوية لتعزيز الفهم المتبادل. أحيانا، قد يُلهم فيلم ما شخصاً لتغيير مسار حياته، أو يعيد النظر في معتقد كان يعتبره راسخاً.
الاجتماع والمتعة المشتركة
تجربة السينما ليست فردية فقط، بل اجتماعية بامتياز. من الجلسات العائلية، إلى الخروج مع الأصدقاء، إلى المناقشات الطويلة بعد نهاية الفيلم — كل هذا يعزّز الروابط الإنسانية. في علم النفس الاجتماعي، تُعرف هذه الظاهرة بتعزيز "الهوية الجماعية"، حيث تصبح التجربة المشتركة وسيلة لبناء علاقات أقوى. الأفلام تمنحنا مواضيع للنقاش، تفتح الباب لفهم مشاعر الآخرين، بل وأحياناً تكون لغة مشتركة تجمع من خلفيات وثقافات مختلفة.
لماذا لا نملّ من مشاهدة الأفلام؟
رغم مشاهدة البعض لنفس الفيلم عشرات المرات، إلا أن المتعة لا تختفي. في علم النفس السلوكي، يُفسر هذا بالتكرار المرتبط بالمكافأة، حيث يصبح الفيلم المفضل جزءاً من طقوس الراحة والحنين. أيضاً، بعض المشاهد ترتبط بذكريات معينة — قد يكون فيلم شاهدته مع شخص عزيز أو في لحظة خاصة — فيتحول إلى عنصر عاطفي ثابت في الذاكرة، يُستعاد في كل مرة يُعاد فيها المشهد.
رغم تغير وسائل العرض وتطور المنصات، لا يزال شغف البشر بالسينما قائماً، بل يزداد مع مرور الزمن. الأفلام ليست مجرد صور متحركة، بل تجارب نفسية ومعرفية تمسّ أعماقنا. إنها مرآة لذواتنا، ونوافذ على عوالم الآخرين، ومصادر للإلهام، الفهم، والتغيير. لذا، دعونا لا نكتفي بمشاهدة الأفلام، بل نفهم علاقتنا بها كفن إنساني يعكس من نحن… وما نطمح أن نكون.